فصل: ذكر حادثة غريبة بالأندلس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر إيقاع صمصام الدولة بالأتراك:

في هذه السنة أمر صمصام الدولة بقتل من بفارس من الأتراك، فقتل منهم جماعة، وهرب الباقون فعاثوا في البلاد، وانصرفوا إلى كرمان، ثم منها إلى بلاد السند، واستأذنوا ملكها في دخول بلاده، فأذن لهم وخرج إلى تلقيهم ووافق أصحابه على الإيقاع بهم، فلما رآهم جعل أصحابه صفين، فلما حصل الأتراك في وسطهم أطبقوا عليهم وقتلوهم فلم يفلت منهم إلا نفر جرحى وقعوا بين القتلى وهربوا تحت الليل.

.ذكر وفاة خواشاذه:

في هذه السنة توفي أبو نصر خواشاذه بالبطائح، وكان قد هرب إليها بعد أن قبض، وكاتبه بهاء الدولة، وفخر الدولة، وصمصام الدولة، وبدر بن حسنويه، كل منهم يستدعيه، ويبذل له ما يريده وقال له فخر الدولة: لعلك تسيء الظن بما قدمته في خدمة عضد الدولة، وما كنا لنؤاخذك بطاعة من قدمك ومناصحته، وقد علمت ما عملته مع الصاحب بن عباد، وتركنا ما فعله معنا. فعزم على قصده، فأدركه أجله قبل ذلك، وتوفي، وكان من أعيان قواد عضد الدولة.

.ذكر عود عسكر صمصام الدولة إلى الأهواز:

في هذه السنة جهز صمصام الدولة عسكره من الديلم وردهم إلى الأهواز مع العلاء بن الحسن، واتفق أن طغان، نائب بهاء الدولة بالأهواز، توفي، وعزم من معه من الأتراك على العود إلى بغداد، وكتب من هناك إلى بهاء الدولة بالخبر، فأقلقه ذلك وأزعجه، فسير أبا كاليجار المرزبان بن شهفيروز إلى الأهواز نائباً عنه وأنفذ أبا محمد الحسن بن مكرم إلى الفتكين، وهو برامهرمز، قد عاد من بين يدي عسكر صمصام الدولة إليها، يأمره بالمقام بموضعه، فلم يفعل، وعاد إلى الأهواز، فكتب إلى أبي محمد بن مكرم بالنظر في الأعمال، وسار بعدهم بهاء الدولة نحو خوزستان، فكاتبه العلاء، وسلك طريق اللين والخداع.
ثم سار على نهر المسرقان إلى أن حصل بخان طوق، ووقعت الحرب بينه وبين أبي محمد بن مكرم والفتكين، وزحف الديلم بين البساتين، حتى دخلوا البلد، وانزاح عنه ابن مكرم والفتكين، وكتبا إلى بهاء الدولة يشيران عليه بالعبور إليها، فتوقف عن ذلك ووعدهما به، وسير إليهما ثمانين غلاماً من الأتراك، فعبروا وحملوا على الديلم من خلفهم، فأفرج لهم الديلم، فلما توسطوا بينهم أطبقوا عليهم فقتلوهم.
فلما عرف بهاء الدولة ذلك ضعفت نفسه، وعزم على العود، ولم يظهر ذلك، فأمر بإسراج الخيل وحمل السلاح، ففعل ذلك، وسار نحو الأهواز يسيراً، ثم عاد إلى البصرة فنزل بظاهرها. فلما عرف ابن مكرم خبر بهاء الدولة عاد إلى عسكر مكرم، وتبعهم العلاء والديلم فأجلوهم عنها، فنزلوا براملان بين عسكر مكرم وتستر، وتكررت الوقائع بين الفريقين مدةً.
وكان بيد الأتراك، أصحاب بهاء الدولة، من تستر إلى رامهرمز، ومع الديلم منها إلى أرجان، وأقاموا ستة أشهر، ثم رجعوا إلى الأهواز، ثم عبر بهم النهر إلى الديلم، واقتتلوا نحو شهرين، ثم رحل الأتراك وتبعهم العلاء، فوجدهم قد سلكوا طريق واسط، فكف عنهم، وأقام بعسكر مكرم.

.ذكر حادثة غريبة بالأندلس:

في هذه السنة سير المنصور محمد بن أبي عامر، أمير الأندلس لهشام المؤيد، عسكراً إلى بلاد الفرنج للغزاة، فنالوا منهم وغنموا، وأوغلوا في ديارهم، وأسروا غرسية، وهو ملك للفرنج ابن ملك من ملوكهم يقال له شانجة، وكان من أعظم ملوكهم وأمنعهم، وكان من القدر أن شاعراً للمنصور، يقال له أبو العلاء صاعد بن الحسن الربعي، قد قصده من بلاد الموصل، وأقام عنده، وامتدحه قبل هذا التاريخ، فلما كان الآن أهدى أبو العلاء إلى المنصور أيلاً، وكتب معه أبياتاً منها:
يا حرز كلّ مخوّفٍ، وأمان كلّ ** مشرّدٍ، ومعزّ كلّ مذلّل

جدواك إن تخصص به فلأهله، ** وتعمّ بالإحسان كلّ مؤمّل

يقول فيها:
مولاي مؤنس غربتي، متخطّفي ** من ظفر أيّامي، ممنّع معقلي

عبدٌ رفعت بضبعه، وغرسته ** في نعمةٍ أهدى إليك بأيّل

سمّيته غرسيّة، وبعثته ** في حبله ليتاح فيه تفاؤلي

فلئن قبلت، فتلك أسنى نعمةٍ ** أسدى بها ذو نعمةٍ وتطوّل

فسمى هذا الشاعر الأيل غرسية تفاؤلاً بأسر ذلك غرسية، فكان أسره في اليوم الذي أهدى فيه الأيل، فانظر إلى هذا الاتفاق ما أعجبه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ورد الوزير أبو القاسم علي بن أحمد الأبرقوهي من البطيحة إلى بهاء الدولة، بعد عوده من خوزستان، وكان قد التجأ إلى مهذب الدولة، فأرسل بهاء الدولة يطلبه ليستوزره، فحضر عنده، فلم يتم له ذلك، فعاد إلى البطيحة، وكان الفاضل، وزير بهاء الدولة، معه بواسط، فلما علم الحال استأذن في الإصعاد إلى بغداد، فأذن له فأصعد، فعاد بهاء الدولة وطلبه ليرجع إليه، فغالطه ولم يعد.
وفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي أبو حفص عمر بن أحمد بن محمد ابن أيوب المعروف بابن شاهين الواعظ، مولده في صفر سنة سبع وتسعين ومائتين، وكان مكثراً من الحديث ثقةً.
وفيها، في ذي القعدة، توفي الإمام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي المعروف بالدارقطني الإمام المشهور.
وفيها، في ربيع الأول، توفي محمد بن عبدالله بن سكرة الهاشمي من ولد علي بن المهدي بالله، وكان منحرفاً عن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وكان خبيث اللسان يتقى سفهه، ومن جيد شعره:
في وجه إنسانةٍ كلفت بها ** أربعةٌ ما اجتمعن في أحد

الوجه بدرٌ والصدغ غاليةٌ، ** والرّيق خمرٌ، والثّغر من برد

وفيها توفي يوسف بن عمر بن مسروق، أبو الفتح القواس، الزاهد، في ربيع الأول، وله خمس وخمسون سنة. ثم دخلت:

.سنة ست وثمانين وثلاثمائة:

.ذكر وفاة العزيز بالله وولاية ابنه الحاكم وما كان من الحروب إلى أن استقر أمره:

في هذه السنة توفي العزيز أبو منصور نزال بن المعز أبي تميم معد العلوي، صاحب مصر، لليلتين بقيتا من رمضان، وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر ونصف، بمدينة بلبيس، وكان برز إليها لغزو الروم، فلحقه عدة أمراض منها النقرس والحصا والقولنج، فاتصلت به إلى أن مات.
وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً، ومولده بالمهدية من إفريقية.
وكان أسمر طويلاً، أصهب الشعر، عريض المنكبين، عارفاً بالخيل والجوهر، قيل إنه ولى عيسى بن نسطورس النصراني كتابته، واستناب بالشام يهودياً اسمه منشا، فاعتز بهما النصارى وإليهود، وآذوا المسلمين، فعمد أهل مصر وكتبوا قصة وجعلوها في يد صورة عملوها من قراطيس، فيها: بالذي أعز إليهود بمنشا والنصارى بعيسى بن نسطورس، وأذل المسلمين بك إلا كشفت ظلامتي؛ وأقعدوا تلك الصورة على طريق العزيز، والرقعة بيدها، فلما رآها أمر بأخذها، فلما قرأ ما فيها، ورأى الصورة من قراطيس، علم ما أريد بذلك، فقبض عليهما، وأخذ من عيسى ثلاثمائة ألف دينار، ومن إليهودي شيئاً كثيراً.
وكان يحب العفو ويستعمله، فمن حلمه أنه كان بمصر شاعر اسمه الحسن ابن بشر الدمشقي، وكان كثير الهجاء، فهجا يعقوب بن كلس، وزير العزيز، وكاتب الإنشاء من جهته أبا نصر عبدالله الحسين القيرواني، فقال:
قل لأبي نصرٍ صاحب القصر، ** والمتأتّي لنقض ذا الأمر

انقض عرى الملك للوزير تفز ** منه بحسن الثناء والذّكر

وأعط، وامنع، ولا تخف أحداً، ** فصاحب القصر ليس في القصر

وليس يدري ماذا يراد به ** وهو إذا ما درى، فما يدري

فشكاه ابن كلس إلى العزيز، وأنشده الشعر، فقال له: هذا شيء اشتركنا فيه في الهجاء فشاركني في العفو عنه. ثم قال هذا الشاعر أيضاً وعرض بالفضل القائد:
تنصّر، فالتنصّر دين حقٍّ، ** عليه زماننا هذا يدلّ

وقل بثلاثةٍ عزّوا وجلّوا، ** وعطّل ما سواهم فهو عطل

فيعقوب الوزير أبٌ، وهذا ** العزيز ابنٌ، وروح القدس فضل

فشكاه أيضاً إلى العزيز، فامتعض منه إلا أنه قال: اعف عنه؛ فعفا عنه.
ثم دخل الوزير على العزيز، فقال: لم يبق للعفو عن هذا معنىً، وفيه غضٌّ من السياسة، ونقضٌ لهيبة الملك، فإنه قد ذكرك وذكرني وذكر ابن زبارج نديمك، وسبك بقوله:
زبارجيٌّ نديمٌ وكلّسيٌّ وزير، ** نعم على قدو الكلب يصلح الساجور

فغضب العزيز، وأمر بالقبض عليه، فقبض عليه، لوقته، ثم بدا العزيز إطلاقه، فأرسل إليه يستدعيه، وكان للوزير عين في القصر، فأخبره بذلك، فأمر بقتله فقتل.
فلما وصل رسول العزيز في طلبه أراه رأسه مقطوعاً، فعاد إليه فأخبره، فاغتم له.
ولما مات العزيز ولي بعده ابنه أبو علي المنصور، ولقب الحاكم بأمر الله، بعهد من أبيه، فولي وعمره إحدى عشرة سنة وستة أشهر، وأوصى العزيز إلى أرجوان الخادم، وكان يتولى أمر داره، وجعله مدبر دولة ابنه الحاكم، فقام بأمره، وبايع له، وأخذ له البيعة على الناس، وتقدم الحسن ابن عمار، شيخ كتامة وسيدها، وحكم في دولته، واستولى عليها، وتلقب بأمين الدولة، وهو أول من تلقب في دولة العلويين المصريين، فأشار عليه ثقاته بقتل الحاكم، وقالوا: لا حاجة بنا إلى من يتعبدنا؛ فلم يفعل احتقاراً له، واستصغاراً لسنه.
وانبسطت كتامة في البلاد، وحكموا فيها، ومدوا أيديهم إلى أموال الرعية وحريمهم، وأرجوان مقيم مع الحاكم في القصر يحرسه، واتفق معه شكر خادم عضد الدولة، وقد ذكرنا قبض شرف الدولة عليه ومسيره إلى مصر، فلما اتفقا، وصارت كلمتهما واحدة، كتب أرجوان إلى منجوتكين يشكو ما يتم عليه من ابن عمار، فتجهز وسار من دمشق نحو مصر، فوصل الخبر إلى ابن عمار، فأظهر أن منجوتكين قد عصى على الحاكم، وندب العساكر إلى قتاله، وسير إليه جيشاً كثيراً، وجعل عليهم أبا تميم سليمان بن جعفر بن فلاح الكتامي، فساروا إليه، فلقوه بعسقلان، فانهزم منجوتكين وأصحابه، وقتل منهم ألفا رجل، وأسر منجوتكين وحمل إلى مصر، فأبقى عليه ابن عمار، وأطلقه استمالةً للمشارقة بذلك.
واستعمل ابن عمار على الشام أبا تميم الكتامي، واسمه سليمان بن جعفر، فسار إلى طبرية، فاستعمل على دمشق أخاه علياً، فامتنع أهلها عليه، فكاتبهم أبو تميم يتهددهم فخافوا وأذعنوا بالطاعة، واعتذروا من فعل سفهائهم، وخرجوا إلى علي فلم يعبأ بهم وركب ودخل البلد فأحرق وقتل وعاد إلى عسكره.
وقدم عليهم أبو تميم فأحسن إليهم وأمنهم، وأطلق المحبسين، ونظر في أمر الساحل، واستعمل أخاه علياً على طرابلس، وعزل عنها جيش بن الصمصامة الكتامي، فمضى إلى مصر، واجتمع مع أرجوان على الحسن بن عمار، فانتهز أرجوان الفرصة ببعد كتامة عن مصر مع أبي تميم، فوضع المشارقة على الفتك بمن بقي بمصر منهم، وبابن عمار معهم.
فبلغ ذلك ابن عمار، فعمل على الإيقاع بأرجوان وشكر العضدي، فأخبرهما عيون لهما على ابن عمار بذلك، فاحتاطا ودخلا قصر الحاكم باكين، وثارت الفتنة، واجتمعت المشارقة، ففرق فيهم المال، وواقعوا ابن عمار ومن معه، فانهزم واختفى.
فلما ظفر أرجوان أظهر الحاكم، وأجلسه، وجدد له البيعة، وكتب إلى وجوه القواد والناس بدمشق بالإيقاع بأبي تميم، فلم يشعر إلا وقد هجموا عليه ونهبوا خزائنه، فخرج هارباً، وقتلوا من كان عنده من كتامة، وعادت الفتنة بدمشق، واستولى الأحداث.
ثم إن أرجوان أذن للحسن بن عمار في الخروج من استتاره، وأجراه على إقطاعه، وأمره بإغلاق بابه.
وعصى أهل صور، وأمروا عليهم رجلاً ملاحاً يعرف بعلاقة، وعصى أيضاً المفرج بن دغفل بن الجراح، ونزل على الرملة وعاث في البلاد.
واتفق أن الدوقس، صاحب الروم، نزل على حصن أفامية، فأخرج أرجوان جيش بن الصمصامة في عسكر ضخم، فسار حتى نزل بالرملة، فأطاعه وإليها، وظفر فيها بأبي تميم فقبض عليه، وسير عسكراً إلى صور، وعليهم أبو عبدالله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان، فغزاها براً وبحراً. فأرسل علاقة إلى ملك الروم يستنجده، فسير إليه عدة مراكب مشحونة بالرجال، فالتقوا بمراكب المسلمين على صور، فاقتتلوا، وظفر المسلمون، وانهزم الروم، وقتل منهم جمع، فلما انهزموا انخذل أهل صور، وضعفت نفوسهم، فملك البلد أبو عبدالله بن حمدان، ونهبه، وأخذت الأموال، وقتل كثير من جنده، وكان أول فتح كان على يد أرجوان، وأخذ علاقة أسيراً فسيره إلى مصر، فسلخ وصلب بها؛ وأقام بصور، وسار جيش بن الصمصامة لقصد المفرج ابن دغفل، فهرب من بين يديه، وأرسل يطلب العفو فأمنه.
وسار جيش أيضاً إلى عسكر الروم، فلما وصل إلى دمشق تلقاه أهلها مذعنين، فأحسن إلى رؤساء الأحداث، وأطلق المؤن، وأباح دم كل مغربي يتعرض لأهلها، فاطمأنوا إليه.
وسار إلى أفامية، فصاف الروم عندها، فانهزم هو وأصحابه، ما عدا بشارة الإخشيدي، فإن ثبت في خمسمائة فارس. ونزل الروم إلى سواد المسلمين يغنمون ما فيه، والدوقس واقف على رايته، وبين يديه ولده وعدة غلمان، فقصده كردي يعرف بأحمد بن الضحاك، من أصحاب بشارة، ومعه خشت، فظنه الدوقس مستأمناً، فلم يحترز منه، فلما دنا منه حمل عليه وضربه بالخشت فقتله، فصاح المسلمون: قتل عدو الله! وعادوا ونزل النصر عليهم، فانهزمت الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة.
وسار جيش إلى باب إنطاكية يغنم ويسبي ويحرق، وعاد إلى دمشق فنزل بظاهرها، وكان الزمان شتاء، فسأله أهل دمشق ليدخل البلد، فلم يفعل، ونزل ببيت لهيا، وأحسن السيرة في أهل دمشق، واستخص رؤساء الأحداث، واستحجب جماعة منهم، وجعل يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجيء معهم من أصحابهم، فكان يحضر كل إنسان منهم في جمع من أصحابه وأشياعه، وأمرهم إذا فرغوا من الطعام أن يحضروا إلى حجرة له يغسلون أيديهم فيها، فعبر على ذلك برهة من الزمان، فأمر أصحابه أن رؤساء الأحداث، إذا دخلوا الحجرة لغسل أيديهم، أن يغلقوا باب الحجرة عليهم، ويضعوا السيف في أصحابهم، فلما كان الغد حضروا الطعام، وقام الرؤساء إلى الحجرة، فأغلقت الأبواب عليهم، وقتل من أصحابهم نحو ثلاثة آلاف رجل، ودخل دمشق فطافها، فاستغاث الناس وسألوه العفو، وعفا عنهم، وأحضر أشراف أهلها، وقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم، وسير الأشراف إلى مصر، وأخذ أموالهم ونعمهم، ثم مرض بالبواسير وشدة الضربان فمات.
وولي بعده ابنه محمد، وكانت ولايته هذه تسعة أشهر، ثم إن أرجوان بعد هذه الحادثة راسل بسيل ملك الروم، وهادنه عشر سنين، واستقامت الأمور على يد أرجوان. وسير أيضاً جيشاً إلى برقة، وطرابلس الغرب، ففتحها، واستعمل عليها أنساً الصقلبي ونصح الحاكم، وبالغ في ذلك، ولازم خدمته، فثقل مكانه على الحاكم، فقتله سنة تسع وثمانين.
وكان خصياً أبيض، وكان لأرجوان وزير نصراني اسمه فهد بن إبراهيم، فاستوزره الحاكم، ثم إن الحاكم رتب الحسين بن جوهر موضع أرجوان، ولقبه قائد القواد ثم قتل الحسن بن عمار، المقدم ذكره، ثم قتل الحسين بن جوهر، ولم يزل يقيم الوزير بعد الوزير ويقتلهم. ثم جهز يارختكين للمسير إلى حلب، وحصرها، وسير معه العساكر الكثيرة، فسار عنها، فخافه حسان بن المفرج الطائي، فلما رحل من غزة إلى عسقلان كمن له حسان ووالده، وأوقعا به وبمن معه، وأسراه وقتلاه، وقتل من الفريقين قتلى كثيرة، وحصرا الرملة، ونهبا النواحي، وكثر جمعهما، وملكا الرملة وما والاها، فعظم ذلك على الحاكم، وأرسل يعاتبهما، وسبق السيف العذل، فأرسلا إلى الشريف أبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي الحسني، أمير مكة، وخاطباه بأمير المؤمنين، وطلباه إليهما ليبايعا له بالخلافة، فحضر، واستناب بمكة، وخوطب بالخلافة.
ثم إن الحاكم راسل حساناً وأباه، وضمن لهما الإقطاع الكثيرة والعطاء الجزير، واستمالهما، فعدلا عن أبي الفتوح، ورداه إلى مكة، وعادا إلى طاعة الحاكم.
ثم إن الحاكم جهز عسكراً إلى الشام، واستعمل عليهم علي بن جعفر بن فلاح، فلما وصل إلى الرملة أزاح حسان بن الفمرج وعشيرته عن تلك الأرض، وأخذ ما كان له من الحصون بجبل الشراة، واستولى على أمواله وذخائره، وسار إلى دمشق والياً عليها، فوصل إليها في شوال سنة تسعين وثلاثمائة.
وأما حسان فإنه بقي شريداً نحو سنتين، ثم أرسل والده إلى الحاكم فأمنه وأقطعه، فسار حسان إليه بمصر، فأكرمه وأحسن إليه؛ وكان المفرج والد حسان قد توفي مسموماً، وضع الحاكم عليه من سمه، فبموته ضعف أمر حسان على ما ذكرناه.

.ذكر استيلاء عسكر صمصام الدولة على البصرة:

في هذه السنة سار قائد كبير من قواد صمصام الدولة، اسمه لشكرستان، إلى البصرة، فأجلى عنها نواب بهاء الدولة.
وسبب ذلك أن الأتراك لما عادوا عن العلاء، كما ذكرناه، كان لشكرستان هذا مع العلاء، فأتاهم من الديلم الذين مع بهاء الدولة أربعمائة رجل مستأمنين، فأخذهم لشكرستان، وسار بهم وبمن معه إلى البصرة، فكثر جمعه، فنزلوا قرب البصرة بين البساتين يقاتلون أصحاب بهاء الدولة، ومال الأيهم بعض أهل البصرة، ومقدمهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي، وكانوا يحملون إليهم الميرة.
وعلم بهاء الدولة بذلك، فأنفذ من يقبض عليهم، فهرب كثير منهم إلى لشكرستان، فقوي بهم، وجمعوا السفن وحملوه فيها، ونزلوا إلى البصرة، فقاتلوا أصحاب بهاء الدولة بها، وأخرجوهم عنها، وملك لشكرستان البصرة، وقتل من أهلها كثيراً، وهرب كثير منهم، وأخذ كثيراً من أموالهم.
فكتب بهاء الدولة إلى مهذب الدولة، صاحب البطيحة، يقول: أنت أحق بالبصرة. فسير إليها جيشاً مع عبدالله بن مرزوق، فأجلى لشكرستان عن البصرة، فقيل: إنه سار عن البصرة بغير حرب، ودخلها ابن مرزوق. وقيل: إنما فارقها بعد أن حارب فيها، وضعف عن المقام بين يديه. وصفت البصرة لمهذب الدولة.
ثم إن لشكرستان عمل على العود إلى البصرة، فهجم عليها في السفن، ونزل أصحابه بسوق الطعام، واقتتلوا، فاستظهر لشكرستان، وكاتب بهاء الدولة يطلب المصالحة، ويبذل الطاعة، ويخطب له بالبصرة، فأجابه مهذب الدولة إلى ذلك، وأخذ ابنه رهينة.
وكان لشكرستان يظهر طاعة صمصام الدولة وبهاء الدولة ومهذب الدولة، وعسف أهل البصرة مدة، فتفرقوا، ثم إنه أحسن إليهم وعدل فيهم، فعادوا.

.ذكر ولاية المقلد الموصل:

في هذه السنة ملك المقلد بن المسيب مدينة الموصل.
وكان سبب ذلك أن أخاه أبا الذواد توفي هذه السنة، فطمع المقلد في الإمارة، فلم تساعده عقيل على ذلك، وقلدوا أخاه علياً لأنه أكبر منه، فأسرع المقلد واستمال الديلم الذين كانوا مع أبي جعفر الحجاج بالموصل، فمال إليه بعضهم، وكتب إلى بهاء الدولة قد ولاه الموصل، وسأله مساعدته على أبي جعفر لأنه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصل فخرج إليهم كل من استماله المقلد من الديلم، وضعف الحجاج، وطلب منهم الأمان، فأمنوه، وواعدهم يوماً يخرج إليهم فيه.
ثم إنه انحدر في السفن قبل ذلك اليوم، فلم يشعروا به إلا بعد انحداره، فتبعوه، فلم ينالوا منه شيئاً، ونجا بماله منهم، وسار إلى بهاء الدولة، ودخل المقلد البلد، واستقر الأمر بينه وبين أخيه على أن يخطب لهما، ويقدم علي لكبره، ويكون له معه نائب يجبي المال، واشتركا في البلد والولاية، وسار علي إلى البر، وأقام المقلد، وجرى الأمر على ذلك مديدةً، ثم تشاجروا واختصموا وكان ما نذكره إن شاء الله.
وكان المقلد يتولى حماية غربي الفرات من أرض العراق، وكان له ببغداد نائب فيه تهور، فجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة، فكتب إلى المقلد يشكو، فانحدر من الموصل في عساكره، وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة حرب انهزموا فيها، وكتب إلى بهاء الدولة يعتذر، وطلب إنفاذ من يعقد عليه ضمان القصر وغيره.
وكان بهاء الدولة مشغولاً بمن يقاتله من عسكر أخيه، فاضطر إلى المغالطة، ومد المقلد يده فأخذ الأموال، فبرز نائب بهاء الدولة ببغداد، وهو حينئذ أبو علي بن إسماعيل، وخرج إلى حرب المقلد، فبلغ الخبر إليه، فأنفذ أصحابه ليلاً، فاقتتلوا، وعادوا إلى المقلد، فلما بلغ الخبر إلى بهاء الدولة بمجيء أصحاب المقلد إلى بغداد، أنفذ أبا جعفر الحجاج إلى بغداد، وأمره بمصالحة المقلد والقبض على أبي علي بن إسماعيل، فسار إلى بغداد في آخر ذي الحجة، فلما وصل إليها راسله المقلد في الصلح، فاصطلحا على أن يحمل إلى بهاء الدولة عشرة آلاف دينار، ولا يأخذ من البلاد إلا رسم الحماية، ويخطب لأبي جعفر بعد بهاء الدولة، وأن يخلع على المقلد الخلع السلطانية، ويلقب بحسام الدولة، ويقطع الموصل، والكوفة، والقصر، والجامعين، واستقر الأمر على ذلك؛ وجلس القادر بالله له.
ولم يف المقلد من ذلك بشيء إلا بحمل المال، واستولى على البلاد، ومد يده في المال، وقصده المتصرفون والأماثل، وعظم قدره، وقبض أبو جعفر على أبي علي، ثم هرب أبو علي، نائب بهاء الدولة، واستتر وسار إلى البطيحة مستتراً، ملتجئاً إلى مهذب الدولة.

.ذكر وفاة المنصور بن يوسف وولاية ابنه باديس:

في هذه السنة توفي المنصور بن يوسف بلكين أمير إفريقية، أوائل ربيع الأول، خارج صبرة، ودفن بقصره.
وكان ملكاً كريماً، شجاعاً، حازماً، ولم يزل مظفراً منصوراً، حسن السيرة، محباً للعدل والرعية، أوسعهم عدلاً، وأسقط البقايا عن أهل إفريقية، وكانت مالاً جليلاً.
ولما توفي ولي بعده ابنه باديس، ويكنى أبا مناد، فلما استقر في الأمر سار إلى سردانية، وأتاه الناس من كل ناحية للتعزية والتهنئة، وأراد بنو زيري أعمام أبيه أن يخالفوا عليه، فمنعهم أصحاب أبيه وأصحابه.
وكان مولد باديس سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وأتته الخلع والعهد بالولاية من الحاكم بأمر الله من مصر، فقرئ العهد، وبايع للحاكم هو وجماعة بني عمه والأعيان من القواد.
وفيها ثار على باديس رجل صنهاجيٌ اسمه خليفة بن مبارك، فأخذ وحمل إلى باديس، فأركب حماراً، وجعل خلفه رجل أسود يصفعه، وطيف به، ولم يقتل احتقاراً له وسجن.
وفيها استعمل باديس عمه حماد بن يوسف بلكين على أشير، وأقطعه إياه، وأعطاه من الخيل والسلاح والعدد شيئاً كثيراً، فخرج إليها، وحماد هذا هو جد بني حماد الذين كانوا ملوك إفريقية، والقلعة المنسوبة إليهم مشهورة بإفريقية، ومنهم أخذها عبد المؤمن بن علي.